مفهوم "حكومة القضاة"
يشير مصطلح "حكومة القضاة" (بالفرنسية: Gouvernement des juges) إلى الحالة التي يصبح فيها القضاة، خصوصًا قضاة المحاكم الدستورية، فاعلين رئيسيين في توجيه السياسات العامة عبر تأويل القوانين وتقييد السلطات الأخرى، بل وأحيانًا إلغائها بدعوى عدم دستوريتها. وهو بذلك يتجاوز الدور التقليدي للقضاء كحكم محايد، ليصبح طرفًا مقرِّرًا في التوازنات السياسية.
النشأة والسياق التاريخي
يرتبط ظهور هذا المفهوم بتجارب ديمقراطية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، التي عرفت منذ القرن التاسع عشر تدخلًا قويًا من المحكمة العليا في الحياة السياسية، من خلال ما يُعرف بـ"الرقابة القضائية على دستورية القوانين". وقد توسع استخدام هذا المفهوم في أوروبا مع بروز المحاكم الدستورية بعد الحرب العالمية الثانية.
وفي السياق العربي، أصبح المصطلح حاضرًا بقوة في مراحل الانتقال السياسي أو الأزمات الدستورية، حيث يغيب أو يُضعف البرلمان، ويتقدم القضاء كجهة "تقرّر" مصير قوانين أو قرارات سيادية.
الدلالات القانونية والسياسية
يمثل هذا المفهوم نقطة خلافية بين اتجاهين:
الاتجاه الأول: يعتبره ضمانة لحماية الحقوق والحريات، وردعًا لتغوّل السلطتين التنفيذية والتشريعية، لا سيما في الأنظمة التي لا تملك تقاليد ديمقراطية راسخة.
الاتجاه الثاني: يرى فيه تجاوزًا خطيرًا لمبدأ فصل السلطات، وتحويلاً للقضاة إلى مشرّعين غير منتخبين، مما يهدد شرعية العملية السياسية.
مواقف وانتقادات
في المغرب، أشار وزير العدل في لقاء صحفي إلى تخوفه من ظاهرة "حكومة القضاة"، معتبرًا أن القضاء بات يتدخل في اختصاصات ليست من صميم عمله، مما يُحدث ارتباكًا في عمل السلطات. وقد أثار هذا التصريح جدلاً واسعًا، بين من يرى فيه دعوة لحماية التوازن المؤسساتي، ومن يراه محاولة للحد من استقلال القضاء.
حدود التدخل القضائي
لا يُنكر أحد أهمية القضاء في صون الحقوق والحريات، لكن الإشكال يكمن في غموض الحدود بين التفسير والتشريع، وبين الرقابة والحكم السياسي. فحين يُصدر القضاء قرارات تُعيد تشكيل الواقع السياسي، فإن السؤال يطرح حول من يملك "الحق الأخير في القول الفصل": القاضي أم المشرّع المنتخب؟
تظل "حكومة القضاة" مفهوما إشكاليًا يتطلب نقاشًا متوازنًا، يراعي ضرورة استقلال السلطة القضائية من جهة، وعدم تجاوزها لصلاحيات السلطات الأخرى من جهة ثانية. فالديمقراطية لا تكتمل إلا بالتوازن بين السلطات، واحترام إرادة الشعوب التي تتجسد أساسًا في التشريع البرلماني لا في قرارات المحاكم.